فصل: تفسير الآيات رقم (36- 43)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 43‏]‏

‏{‏فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏39‏)‏ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏40‏)‏ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏41‏)‏ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

فما أُوتيتم‏:‏ فما اعطيتم‏.‏ كبائر الإثم‏:‏ كل ما يوجب حدّا‏.‏ الفواحش‏:‏ كل ما عظُم قبحه من السيئات‏.‏ استجابوا‏:‏ اجابوا داعي الله‏.‏ الشورى‏:‏ المشاورة في الأمور‏.‏ البغي‏:‏ الظلم‏.‏ ينتصرون‏:‏ ينتقمون لانفسهم‏.‏ ما عليهم من سبيل‏:‏ ما عليهم عقاب‏.‏ لمن عَزْمِ الأمور‏:‏ لمن الأمور الحسنة المشكورة‏.‏

يذكّر الله تعالى الناس بأن لا يغترّوا بهذه الحياة الدنيا، فكل ما فيها من متاع ولذة ومال وبنين لهو قليلٌ جدا بالنسبة لما أعدّه الله للمؤمنين عنده من نعيم الجنة الدائم للذين يتوكلون على ربهم، ويبتعدون عن ارتكاب الكبائر‏.‏

‏{‏وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ‏}‏

والذين يتحكمون في أعصابهم عند الغضب، ويملِكون أنفسهم، ويغفرون لمن أساء اليهم‏.‏

ومن صفات هؤلاء المؤمنين ايضا انهم يُجيبون ربّهم الى ما دعاهم اليه، ويقيمون الصلاة في اوقاتها على اكمل وجوهها‏.‏

‏{‏وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ‏}‏

وهذا دستور عظيم في الاسلام، فهو يوجب ان يكون الحكْم مبنياً على التشاور‏.‏ وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يشاور أصحابه الكرام في كثير من الأمور، وكان الصحابة الكرام يتشاورون فيما بينهم‏.‏ ومثلُ ذلك قوله تعالى ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏ قال الحسن البصري‏:‏ «ما تشاور قوم الا هُدوا لأرشدِ أمرهم»‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ «الشورى ألفة للجماعة، وصِقال للعقول، وسببٌ الى الصواب، وما تشاور قوم قط الا هدوا»‏.‏ ومن صفات هؤلاء المؤمنين البذلُ والعطاء بسخاء ‏{‏وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏‏.‏ ومن صفات المؤمنين الصادقين أيضاً‏:‏

‏{‏والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ‏}‏

الذين اذا بغى عليهم أحد ينتصرون لأنفسهم ممن ظلمهم‏.‏

ثم بين الله تعالى ان ذلك الانتصار للأنفس مقيَّد بالمِثْل‏:‏

‏{‏وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏}‏

فالزيادة ظلم، والتساوي هو العدل الذي قامت به السمواتُ والأرض‏.‏

ثم بين الله ان من الافضل العفو والتسامح فقال‏:‏

‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏‏.‏ ومثل هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏، ومثله ايضاً ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏، الى آياتٍ كثيرة وأحاديثَ تحثّ على الصبر والعفو‏.‏ وهذا سبيل الاسلام‏.‏

ثم بين الله تعالى أن الانسان اذا انتصر لنفسه ممن ظَلَمه فلا سبيلَ عليه، لكن اللوم والمؤاخذة على المعتدين الذين يظلمون الناسَ ويتكبرون في الأرض ويفسِدون فيها بغير الحق ‏{‏أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

ثم كرر الحث والترغيب في الصبر والعفو فقال‏:‏

‏{‏وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور‏}‏‏.‏

هنا أكد الترغيبَ في الصبر وضبط النفس‏.‏ وأفضلُ انواع الصبر تحمّل الأذى في سبيل إحقاق الحق وإعلائه، وافضلُ انواع العفو ما كان سبباً للقضاء على الفتن والفساد‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ والذين يجتنبون كبير الإثم‏.‏ والباقون‏:‏ كبائر الاثم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 50‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏44‏)‏ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ‏(‏45‏)‏ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏46‏)‏ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ‏(‏47‏)‏ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ‏(‏48‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ‏(‏49‏)‏ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

استجيبوا لربكم‏:‏ أجيبوه‏.‏ لا مردّ له‏:‏ لا يردّه احد بعد ما قضى الله به‏.‏ ملجأ‏:‏ مكان تلجأون اليه‏.‏ وما لكم من نكير‏:‏ ما لكم من إنكار لما فعلتموه، لا تستطيعون ان تنكروه‏.‏ حفيظا‏:‏ رقيبا، محاسباً لاعمالكم‏.‏ رحمة‏:‏ نعمة من صحة وغنى‏.‏ سيئة‏:‏ بلاء‏.‏ عقيما‏:‏ لا يولد له‏.‏

ومن ضلّ طريق الهدى، وخَذَلَه اللهُ لسوءِ استعداده فليس له ناصرٌ من الله، وترى الظالمين يوم القيامة حين يشاهدون العذاب، يسألون ربهم ان يُرجعهم الى الدنيا ليعملوا غير ما كانوا يعملون، ولكن هيهات، لا سبيل الى العودة‏.‏

ثم بين الله حالهم السيئة حين يُعرضون على النار أذلاءَ يسارِقون النظر الى النار جوفاً منها‏.‏

عندئذ يقول المؤمنون‏:‏ حقًا إن الخاسرين هم الذين ظلموا أنفسَهم بالكفر، وخسروا أزواجهم وأولادهم وأقاربهم، وفُرِّق بينهم وبين أحبابهم وحُرموا النعيم الى الأبد، وصدق الله العظيم حين يقول‏:‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ‏}‏‏.‏

وما كان لهم من ينصرهم من الذين عبدوهم من دون الله، ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ‏}‏، أي ليس له أيّ طريقٍ ينجيه من سوء المصير المحتوم، جزاء ضلاله‏.‏

ثم يحذّر الله الناس طالباً إليهم ان يسارعوا الى إجابة ما دعاهم اليه الرسول الكريم، من قبل ان تنتهي الحياة وتنتهي فرصة العمل، ويأتي يوم الحساب الذي ‏{‏لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله‏}‏ ويومئذ لا ملجأ ولا ملاذ لهم من العذاب، ولا يستطيعون انكار ما اجترموه من السيئات‏.‏ فإن أعرضَ المشركون عن إجابتك أيها الرسول فلا تحزنْ، فلست عليهم رقيبا فيما يفعلون‏.‏

‏{‏إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ‏}‏

إن وظيفتك ان تبلّغ، فاذا انت بلّغت فقد أديتَ الأمانة‏.‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 272‏]‏‏.‏

ثم بين الله تعالى طبيعةَ الانسان وغريزته في هذه الحياة وضعفه فقال‏:‏

‏{‏وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ‏}‏

هذه هي طبيعة الانسان‏:‏ إذا أغنيناه وأعطيناه سعةً من الرزق فرح وبطر، وان أصابته فاقةٌ او مرض ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ من معاصٍ ومخالفات- يئس وقنط، إن الانسانَ يكفر النعمة ويجحدها‏.‏

ثم يبين الله انه خالقُ هذا الكون، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويهب لمن يشاء الإناث من الذرية، ويمنح من يشاء الذكور دون الاناث‏.‏ ويتفضل سبحانه على من يشاء بالجمع بين الذكور والاناث، ‏{‏وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً‏}‏ لا ولد له، ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ‏}‏ عليم بكل شيء، قدير على فعل كل ما يريد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ‏(‏51‏)‏ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏52‏)‏ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ‏(‏53‏)‏‏}‏

وحيا‏:‏ كلاماً خفيا‏.‏ من وراء حجاب‏:‏ يُسمع ولا يُرى‏.‏ روحاً من أمرنا‏:‏ ان هذا القرآن روحٌ تحيا به القلوب، وتتغذى به الأنفس‏.‏ نوراً نهدي به‏:‏ الناسَ الى الصراط المستقيم‏.‏

بعد ان بين تعالى النعم الحسيّة التي يعيش بها الناس، بيّن هنا النعمَ الروحية التي تحيا بها القلوب، وتعمرُ الأنفس، وبيّن أن الناس محجوبون عن ربّهم، لأنهم في عالم المادة وهو منزَّهٌ عنها، ولكن من رقَّ حجابُه، وخَلَصَت نفسُه من شوائب المادة، فانه يستطيع ان يتصل بالملأ الأعلى، وان يسمع كلام ربّه بأحد الأوجه الآتية‏:‏

1- ان يحسّ بمعان تُلقى في قلبه، او يرى رؤيا صادقة كرؤيا الخليل إبراهيم بانه يذبح ولده‏.‏‏.‏‏.‏ ورؤيا الأنبياء وحي‏.‏

2- ان يسمع كلاماً من وراء حجاب كما سمع موسى عليه السلام من غير ان يبصر من يكلّمه، فقد سمع كلاما ولم ير المتكلم‏.‏

3- ان يرسل الله مَلَكا فيوحي الى النبيّ ما كلّف به‏.‏

ثم ذكر الله تعالى انه كما أوحى الى الانبياء قبل محمد فقد اوحى اليه القرآن الكريم، وما كان محمد قبل ذلك يعلم ما هو القرآن وما الشرائع التي بها هدايةُ البشر وصلاحُهم في الدارَين‏.‏ ثم خاطبه بهذه العبارة اللطيفة، ‏{‏وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏

ثم فسّر ذلك الصراطَ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض‏}‏ خلقاً وتدبيراً وتصرفا‏.‏ وفي الختام كل شيء ينتهي اليه، ويلتقي عنده، وهو يقضي فيها بأمره ‏{‏أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور‏}‏‏.‏

وهكذا تنتهي هذه السورة الكريمة بالحديث الذي بدأت به عن الوحي، والذي كان محورها الرئيسي، وقد عالجت قصةَ الوحي منذ النبوّات الأولى، لتقرر وحدة الدين ووحدة الطريق، ولتعلن القيادةَ الجديدة للبشريّة ممثلة برسالة سيد الوجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومن يتبعه من المؤمنين الصادقين، ليقودوا الناس الى صراط الله المستقيم‏.‏

سورة الزخرف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ‏(‏4‏)‏ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ‏(‏5‏)‏ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ‏(‏6‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏7‏)‏ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏9‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏10‏)‏ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ‏(‏11‏)‏ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ‏(‏12‏)‏ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ‏(‏13‏)‏ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

الكتاب‏:‏ القرآن الكريم‏.‏ المبين‏:‏ لِطريق الهدى‏.‏ لعلّكم تعقلون‏:‏ لعلكم تفهمونه لأنه بلسانكم‏.‏ أُم الكتاب‏:‏ اللوح المحفوظ‏.‏ افنضرب عنكم الذِكر‏:‏ انُعرض عنكم ونترككم‏.‏ صفحا‏:‏ إعراضا‏.‏ مسرفين‏:‏ متجاوزين الحد في الكفر‏.‏ أشدّ منهم بطشا‏:‏ اقوى منهم وأجلد‏.‏ مثَل الاولين‏:‏ وصفهم وحالهم‏.‏ مهداً‏:‏ فراشا‏.‏ سبلاً‏:‏ طرقا‏.‏ بقدر‏:‏ بمقدار تقتضيه الحكمة والمصلحة‏.‏ فأنشَرنا‏:‏ فأحيينا‏.‏ ميتاً‏:‏ يابسة خالية من النبات‏.‏ الأزواج‏:‏ أصناف المخلوقات‏.‏ لتستووا على ظهوره‏:‏ لتستقروا عليها‏.‏ سخّر‏:‏ ذلل‏.‏ مقرنين‏:‏ مطيقين‏.‏ يقول الشاعر‏:‏ ولستم للصعاب بمقرنينا‏.‏ لمنقلبون‏:‏ لراجعون‏.‏

حم‏:‏ تقرأ هكذا حاميم‏.‏ افتتحت هذه السورة بهذين الحرفين من حروف الهجاء وقد تقدم ذِكر أمثالهما‏.‏

وقد أقسم الله تعالى بكتابه المبين لطريقِ الهدى، وأنه جعله بلغةِ العرب، لغة قومك أيّها الرسولُ لِيفهَموا معناه، وأنه محفوظٌ في علمه تعالى، فليس هو من عند محمدٍ كما تدّعون يا مشركي قريش‏.‏ اننا لن نترك تذكيركم به بسببٍ من إعراضكم عنه، وانهماككم في الكفر به، وإنما نفعل ذلك رحمةً منّا ولطفاً بكم‏.‏

ثم حذّرهم وأنذرهم بأن كثيراً من الأمم قبلهم كانوا أشدّ منهم قوة، وكذّبوا رسُلَهم فكانت عاقبتهم الدمار والهلاك‏.‏

‏{‏ومضى مَثَلُ الأولين‏}‏

وقد رأيتم ما حلّ بهم، فاحذَروا ان يحل بكم مثلُه‏.‏

وبعد أن ذكر ان المشركين سادِرون في كُفرهم وإعراضهم عما جاء به القرآن بيّن هنا أن أفعالهم تخالف اقوالهم‏:‏

‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم‏}‏

ومع اعترافهم هذا بالله يعبُدون الاوثان من دونه‏!‏‏!‏‏.‏

ثم ذكر تعالى أنه هو الذي جعل لكم الأرضَ فِراشاً ممهَّدا، وجعل فيها طُرقاً لتهتدوا بها في سيَركم، ونزّل من السماء ماءً بقدْر الحاجة يكفي الزرع ويسقي الحيوان، وأحيا به الأرضَ الميتة‏.‏ ومثلُ إحياء الأرضِ بعد موتها، يخرجُكم يومَ القيامة للحساب والجزاء‏.‏ ولقد خلق اصناف المخلوقات جميعاً من حيوان ونبات، وسخّر لكُم السفنَ والدوابّ لتركبوها، وتذكروا نعمة ربكم وتقولوا‏:‏

‏{‏سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ‏}‏

لولا لطفُ الله بنا ما كنا لذلك مطيقين‏.‏ إننا يوم القيامة إلى ربنا لراجعون، فيجازي كلَّ نفس بما كسبت، فاستعدّوا لذلك اليوم، ولا تغفلوا عن ذِكره‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وحمزة والكسائي‏:‏ إن كنتم قوما مسرفين بكسر همزة ان‏.‏ والباقون‏:‏ أن كنتم بفتح الهمزة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 25‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ‏(‏16‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏17‏)‏ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ‏(‏18‏)‏ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ‏(‏21‏)‏ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏22‏)‏ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ‏(‏23‏)‏ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏24‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

جزءا‏:‏ ولداً، إذ قالوا الملائكة بنات الله‏.‏ مبين‏:‏ ظاهر واضح‏.‏ بما ضرب للرحمن مثَلاً‏:‏ يعني بالبنات‏.‏ أصفاكم‏:‏ خصّكم‏.‏ كظيم‏:‏ ممتلئ غيظا‏.‏ يُنشَّأ‏:‏ يربَّى‏.‏

بعد ان بيّن الله أنهم يعترفون بالألوهية وأن الله هو خالق هذا الكون- ذكر هنا أنهم متناقضون مكابرون، فهم مع اعترافهم لله بخلْق السموات والأرض قد جعلوا بعضَ خلقه ولدا ظنوه جزءا منه‏.‏ وهذا كفرٌ عظيم‏.‏

ومن عجيب أمرِهم أنهم خصّوه بالبنات، وجعلوا لهم البنين، مع انهم إذا بُشِّر أحدُهم بالأنثى صار وجهه مسودّا من الغيظ، وامتلأ كآبة وحزناً لسوء ما بُشّر به‏.‏

‏{‏أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ‏}‏

وقد جعلوا لله الأنثى التي تتربّى في الزينة، واذا خوصِمتْ لا تقْدِر على الجَدل والمخاصمة، واختاروا لأنفسِهم الذكور‏!‏‏!‏

ثم نعى عليهم في جَعْلهم الملائكة إناثا، وزاد في الانكار عليهم بأن مثلَ هذا الحكم لا يكون الا عن مشاهدة، فهل شَهدوا ولادتهم‏؟‏

‏{‏سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ‏}‏ يوم القيامة حيث يُسألون عنها ويجازون بها‏.‏

ثم حكى عنهم شُبهةً أخرى، وهي انهم قالوا‏:‏ لو شاء الله ما عبدْنا الملائكة، وردّ عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ‏}‏ ويعني‏:‏ هل اعطيناهم كتاباً قبل القرآن يؤيّد افتراءهم هذا فهم متعلقون به‏!‏

وعندما فقدوا كل حجة ودليل قالوا‏:‏

‏{‏إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ‏}‏

لقد وجدْنا آباءنا على دينٍ فقلّدناهم، وبذلك ينقطع الجدل بعد عنادهم وعجزهم‏.‏

ان حال هؤلاء مثلُ الأمم السابقة، فقد قالت ‏{‏إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ‏}‏

وفي هذا تسليةٌ للرسول الكريم ودلالة على ان التقليد في نحو ذلك ضلالٌ قديم‏.‏

ثم حكى الكتابُ الكريم ما قاله كل رسول لأمته‏:‏

‏{‏قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ‏}‏

اتتبعون آباءكم وتلقّدونهم ولو جئتكم بدينٍ هو خيرٌ من دين آبائكم بما فيه من الهداية والرشاد‏!‏‏.‏

فقالوا مجيبين ومصرّين على كفرهم‏:‏ ‏{‏قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ‏}‏‏.‏ ولم يبق لهم عذرٌ بعد هذا كله ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏فانتقمنا مِنْهُمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين‏}‏

وفي هذا تسليةٌ كبرى للرسول الكريم، وإرشادٌ له إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه له، ووعيدٌ وتهديد لهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ أوَمَن يُنَشّأ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين المفتوحة والباقون‏:‏ أوَمَن يَنْشأ بفتح الياء وسكون النون وفتح الشين من غير تشديد‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر‏:‏ وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن‏.‏ والباقون‏:‏ الذي هم عباد الرحمن‏.‏ وقرأ نافع‏:‏ أأُشْهدوا خلقهم بفتح الهمزة وبضم الألف واسكان الشين‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ أشهِدوا بهمزة واحدة وكسر الشين‏.‏ وقرأ ابن عامر وحفس‏:‏ قال أولو جئتكم‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ قل أولو جئتكم، بفعل الأمر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 35‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ‏(‏26‏)‏ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ‏(‏27‏)‏ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏28‏)‏ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ‏(‏29‏)‏ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏30‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ‏(‏31‏)‏ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏32‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ‏(‏34‏)‏ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

براء‏:‏ بريء، ولفظ ‏(‏براء‏)‏ يطلق على المفرد والمثنى والجمع تقول‏:‏ أنا براء مما تعملون، وانتم براء وانتما براء‏.‏ فطرني‏:‏ خلقني‏.‏ وجعلها كلمة باقية‏:‏ وجعل كلمة التوحيد باقية‏.‏ في عقبه‏:‏ في ذرّيته‏.‏ من القريتين‏:‏ من إحدى القريتين وهما مكة والطائف‏.‏ رحمة ربك‏:‏ النبوة‏.‏ سخريا‏:‏ بمعنى التسخير‏.‏ معارج‏:‏ مفرده مَعْرَج ومعراج وهو المَصْعَد والسلّم‏.‏ وعليها يظهَرون‏:‏ يصعدون‏.‏ السرر والأسرة‏:‏ جمع سرير‏.‏ الزخرف‏:‏ الزينة والنقوش‏.‏ انْ كل ذلك لمّا متاع الحياة‏:‏ إنْ كل ذلك الا متاع الحياة‏.‏

يبين الله تعالى للمعاندين لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أن أشرفَ آبائهم وهو ابراهيم عليه السلام تركَ دينَ آبائه، وقال لأبيه وقومه‏:‏ إنني بريء من عبادة آلهتكم الباطلة‏.‏ وانه لا يعبد الا الله الذي خلَقَه على فِطرة التوحيد، فهو سَيَهديه إلى طريق الحق، ويجعلُ كلمة التوحيد باقيةً في ذرّيته ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ فيؤمنون بها‏.‏

لقد متّع الله قريشاً بالنعمة والأمن في بلدهم، فاغترّوا بذلك ولم يتّبعوا ملّةَ أبيهم ابراهيم‏.‏‏.‏‏.‏

‏{‏حتى جَآءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ‏}‏

جاءهم الرسولُ الأمين بالقرآن الكريم يهديهم الى الصراط المستقيم‏.‏ فلما جاءهم الرسول بالحقّ كذّبوه وقالوا ساحر‏.‏

‏{‏وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ‏}‏

وقالوا مستخفّين بهذا النبيّ الكريم لأنه فقير‏:‏ هلاّ نزل القرآن على أحد رجلين من عظماء مكة او الطائف وهما‏:‏ الوليدُ بن المغيرة من سادات مكة، او عروة بن مسعود الثقفي من سادات الطائف‏.‏

وهنا يردّ الله تعالى عليهم ويبين لهم جهلهم بأن العظمةَ ليست بكثرة المال ولا بالجاه، وأن النبوة منصبٌ إلهي وشرفٌ من الله يعطيها من يستحقها، وليست بأيديهم ولا تحت رغبتهم ولذلك قال‏:‏

‏{‏أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ‏}‏

كيف جهِلوا قَدْرَ أنفسِهم حتى يتحكموا في النبوة ويعطوها من يشاؤون‏!‏ الله تعالى قَسَم المعيشة بين الناس وفضّل بعضهم على بعض في الرزق والجاه، ليتخذَ بعضُهم من بعض أعواناً يسخّرونهم في قضاء حوائجهم، وليتعاونوا على هذه الحياة‏.‏

‏{‏وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏

والنبوّة وما يتبعها من سعادة الدارَين خيرٌ من كل ما لديهم في هذه الحياة الدنيا‏.‏ فهذا التفاوت في شئون الدنيا هو الذي يتم به نظام المجتمع، فلولاه لما صرَّف بعضُهم بعضا في حوائجه، ولا تعاونوا في تسهيل وسائل العيش‏.‏

ثم بين الله تعالى انه‏:‏ لولا ان يرغبَ الناسُ في الكفر إذا رأوا الكفار في سَعةٍ من الرزق لمتَّعهم الله بكل وسائل النعيم، فجعل لبيوتهم أبواباً من فضة وسقُفا وسررا ومصاعد من فضة، وزينةً في كل شيء‏.‏‏.‏ وما هذا كلّه إلا متاع قليلٌ زائل مقصور على الحياة الدنيا الفانية‏.‏

‏{‏والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏

أعدّها الله للذين أحسنوا واتقَوا وأخلصوا في إيمانهم‏.‏

روى الترمذي وابن ماجه عن سهل بن سعد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو ك انت الدنيا تَعْجِل عند الله جناحَ بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء»‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وابو عمرو‏:‏ سَقفاً بالافراد، والباقون‏:‏ سُقُفا بالجمع‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة وهشام‏:‏ لمّا متاع الحياة بتشديد ميم لما‏.‏ والباقون‏:‏ لما بالتخفيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 45‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ‏(‏36‏)‏ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏37‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ‏(‏38‏)‏ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ‏(‏39‏)‏ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏40‏)‏ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏41‏)‏ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ‏(‏42‏)‏ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏43‏)‏ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ‏(‏44‏)‏ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

ومن يعشُ عن ذكر الرحمن‏:‏ ومن يعرض عنه، يقال عشا يعشو عشوا‏:‏ ساء بصره، وعشا الى النار‏:‏ رآها ليلا فقصدها‏.‏ وعشى وعشاوة‏:‏ اصيب بصره بضعف‏.‏ نقيّض له‏:‏ نهيئ له‏.‏ القرين‏:‏ الرفيق الذي لا يفارق‏.‏ ذكر الرحمن‏:‏ القرآن‏.‏ بُعد المشرقين‏:‏ يعني المشرق والمغرب، بين المشرق والمغرب‏.‏ والعرب تسمّي احيانا الشيئين المتقابلين باسم احدهما‏.‏ كما نقول العُمَران‏:‏ ابو بكر وعمر، القمران‏:‏ الشمس والقمر‏.‏ فإما نذهبنَّ بك‏:‏ فإن قبضناك وأمتناك‏.‏ وإنه لذِكر لك ولقومك‏:‏ ان القرآن شرف لك ولقومك تُذْكَرون به الى الأبد‏.‏

بعد ان ببين الله ان المال متاعُ الدنيا عَرَضٌ زائل، وان نعيم الآخرة هو النعيم الدائم- ذكر هنا أن الذي يهتم بالدنيا ومتاعها ويُعرِض عن القرآن وما جاء به يهيئ له شيطاناً لا يفارقه، وأن شياطين هؤلاء الفئة من البشر يصدّونهم عن السبيل القويم، ويظنون انهم مهتدون‏.‏ حتى اذا جاء ذلك الرجل يومَ القيامة الى الله ورأى عاقبة إعراضه وكفرِه قال لقرينه نادماً‏:‏ يا ليت بيني وبينك بُعدَ المشرق والمغرب، فبئس الصاحبُ كنتَ لي، حتى أوقعتني في الهاوية‏.‏

ثم يقال لهم جميعا‏:‏ لن يخفَّف العذابُ عنكم اليوم، وكلّكم في العذابِ مشتركون، لا يستطيع أحد منكم ان يساعد الآخر‏.‏

ثم بين الله تعالى لرسوله الكريم أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم، فأنت يا محمد لا تُسمع الصمَّ عن الحق ولا تهدي العميَ عن الاعتبار‏.‏

ثم سلّى رسوله الكريم وبين له انه لا بدّ أن ينتقم منهم، إما في حياة الرسول او بعد مماته، فان قبضناك يا محمد قبل ان نُريَك عذابَهم، ونشفي بذلك صدرَك وصدورَ قوم مؤمنين فإنا سننتقم منهم في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏{‏أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ‏}‏ مسيطرون‏.‏

فاعتصِم يا محمد بالقرآن لأنه الحقُّ والنور المبين، وايبُتْ على العمل به، واللهُ معك لأنك على صراطه المستقيم‏.‏

ان القرآن الذي أوحيناه إليك شرف لك وللعرب، فلقد رفع من شأنهم ونشَر سلطانهم ولغتهم في شرق الأرض وغربها، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وأيّ ذكرٍ اعظم ابها الرسول في شرائع مَنْ أرسلْنا قبلك من رسُلنا، هل جاءت دعوة الناس الى عبادة غيرِ الله‏؟‏ ان جميع الرسل جاؤا بالدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريكَ له‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وابو عمرو وحفص‏:‏ حتى اذا جاءنا بالافراد‏.‏ والباقون‏:‏ جاءانا على التثنية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 56‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏46‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏48‏)‏ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ‏(‏49‏)‏ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏50‏)‏ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏51‏)‏ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ‏(‏52‏)‏ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ‏(‏53‏)‏ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏54‏)‏ فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏55‏)‏ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

بآياتنا‏:‏ بمعجزاتنا التي أظهرها على يد موسى‏.‏ ملئه‏:‏ اشراف قومه‏.‏ مبا عَهِدَ عندك‏:‏ بما اخبرتنا من عهده إليك أنا اذا آمنّا كشف عنا العذاب‏.‏ ينكثون‏:‏ ينقضون العهد‏.‏ وهذه الأنهار تجري من تحتي‏:‏ من تحت قصري وبين يديّ في جناتي‏.‏ مهين‏:‏ حقير، ضعيف‏.‏ ولا يكاد يُبين‏:‏ لا يكاد يُفصِح عما في نفسه، لأنه كان ألثغَ يجعل الراء غينا‏.‏ أسورة‏:‏ جمع سوار وكانوا يُلبسون الرئيس او العظيم اسورة من ذهب‏.‏ مقترنين‏:‏ ملازمين، ليعينوه ويساعدوه‏.‏ فاستخف قومه‏:‏ استخف عقولهم‏.‏ آسفونا‏:‏ أَغضبونا، والأسف هو الحزن او الغضب‏.‏ سلفاً‏:‏ قدوة لمن بعدهم من الكفار‏.‏ ومثلا‏:‏ عبرة وموعظة‏.‏

بعد ان ذكَر الله ان كفار قريش طعنوا في نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم لكونه فقيراً- بيّن هنا ان سيّدنا موسى جاء الى فرعون واشرافِ قومه وقال لهم ‏{‏إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين‏}‏ وأظهر لهم المعجزات، لكنهم سخروا منه وضحكوا من المعجزات‏.‏ وكانت كل معجزة من المعجزات التي توالت عليهم أكبرَ من أختها‏.‏ وحيث أصروا على الكفر والطغيان أصبناهم بأنواع البلايا، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ عن غيهم‏.‏ ولكن بالرغم من معاينتهم تلك المعجزات فقد اعتبروها من قبيل السحر فقالوا‏:‏ يا ايها الساحر، ادعُ لنا ربك متوسّلاً بما عَهد عندك ان يكشف عنا العذاب، فإذا كشفه عنّا اهتدينا وآمنا بما تريد‏.‏

فلما كشف الله عنهم العذاب بدعاء موسى نقضوا العهدَ ولم يؤمنوا‏.‏ وقد جاءت هذه القصة مفصّلة في سورة الأعراف‏.‏

ثم اخبر الله عن تمرد فرعون وطغيانه وعناده فقال‏:‏ ‏{‏ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

أليس لي مُلك مصر وهذه الأنهار التي تشاهدونها تجري من تحت قصري، ‏{‏أَفَلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ أيها القوم‏!‏‏؟‏

‏{‏أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ‏}‏

فأنا خير من هذا الفقير الحقير الذي لا يكاد يُفصح عما يريد‏.‏

ثم ذكر شبهةً مانعة لموسى من الرياسة، وهي انه لا يلبس لباس الملوك، فهلاّ القى ربّه عليه أساورَ من ذهبٍ ان كان صادقا‏!‏‏!‏ او جاء معه الملائكةُ ملازمين له ليساعدوه‏!‏

‏{‏فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

وبعد ذلك بين الله ان هذه الخِدع قد انطلتْ عليهم، وسحَرت ألبابهم، فأطاعوه واعترفوا بربوبيته وكذّبوا موسى‏.‏

ثم بين الله مآلهم‏:‏ فلما أغضبونا بعنادهم انتقمنا منهم بعاجلِ عذابنا، فأغرقناهم أجمعين، وجعلناهم قُدوةً لمن يعمل عملَهم من اهلِ الضلال، وعبرةً وموعظة لمن يأتي بعدهم من الكافرين‏.‏

وفي قصة موسى هنا تسليةٌ للرسول الكريم بها لأن قومه عيّروه بالفقر، وقد سبق لموسى ان عيره فرعونُ بالفقر والضعف‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حفص‏:‏ اسورة‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ أساور، اسورة جمع اسوار، وجمع الجمع اساور وأساورة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وخلف‏:‏ فجعلناهم سُلُفا بضم السين واللام‏.‏ والباقون‏:‏ سلفا، بالإفراد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 66‏]‏

‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ‏(‏57‏)‏ وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ‏(‏58‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ‏(‏60‏)‏ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏62‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏64‏)‏ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏65‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

يصدّون‏:‏ يصيحون ويضجّون‏.‏ جدلا‏:‏ خصومة بالباطل‏.‏ خَصِمون‏:‏ شديدون في الخصومة، ومجبولون على اللجاج وسوء الخلق‏.‏ وجعلناهم مثلاً لبني اسرائيل‏:‏ آية وأمراً عجيبا‏.‏ لعلمٌ للساعة‏:‏ علامة من اشراطها‏.‏ فلا تمترنّ‏:‏ فلا تشكّن‏.‏ البينات‏:‏ المعجزات‏.‏ الحكمة‏:‏ الشرائع المحكمة‏.‏

لقد جادل مشركو قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم جدلا كثيرا، من ذلك ان الرسول الكريم لما تلا عليهم‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ قال له عبدُ الله بن الزِبِعْرَي- وهو من شعراء قريش وقد أَسلمَ وحسُنَ إسلامه فيما بعد-‏:‏ أليس النصارى يعبدون المسيح وأنتَ تقول كان عيسى نبياً صالحاً، فان كان في النار فقد رضينا‏.‏ فأنزل الله تعالى بعد ذلك‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏‏.‏

وجادلوه بعد ذلك كثيرا، ولذلك يقول الله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ‏}‏

لما بين الله وَصْفَ عيسى الحقَّ من أنه عبدٌ مهلوق، وعبادتُه كفرٌ، إذا قومك أيها النبي يُعرِضون عن كل هذا‏.‏

فقال الكافرون‏:‏ أآلهتنا خيرٌ أم عيسى‏؟‏ فإذا كان عيسى في النار فلنكنْ نحنُ وآلهتنا معه‏.‏‏.‏ وما ضرب الكفار لك هذا المثَلَ الا للجدل والغلبة في القول لا لإظهار الحق‏.‏

‏{‏بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ‏}‏

إنهم قوم شديدون في الخصومة، مجبولون على العَنَتِ والعناد‏.‏

ثم بين الله تعالى ان عيسى عبدٌ من عبيده الذين أنعم عليهم فقال‏:‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ‏}‏

وما عيسى ابن مريم غلا عبدٌ أنعمنا عليه بالنبوّة، وقد جعلناه آيةً بأن خلقناه من غير أبٍ كَمَثَلِ آدم خَلَقَه الله من تراب‏.‏ ولو نشاء لجعلْنا في الأرض عجائب كأمرِ عيسى كأن نجعل لبعضكم أولاداً ملائكة يخلفونهم، كما خلقنا عيسى من غير اب‏.‏

والحق أن عيسى بحدوثه من غير أب لدليلٌ على قيام الساعة، ‏{‏فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا‏}‏ واتبعوا هداي وهُدى رسولي، فما أدعوكم اليه هو الصراط المستقيم‏.‏ ويقول بعض المفسّرين، وان القرآن الكريم ليعلِمُكم بقيام الساعة فاتَّبعوا تعاليمه، ولا تتبعوا زيغ الشيطان انه لكم عدوٌّ ظاهر‏.‏

ولما جاء عيسى رسولاً الى بني اسرائيل ومعه الآيات الدالة على رسالته، قال لقومه‏:‏ قد جئتكم بشريعةٍ حكيمة تدعوكم الى التوحيد، وجئتكم لأبيّن لكم بعضَ الذي تختلفون فيه من أمر الدين، فاتقوا الله في مخالفتي، وأطيعوني فيما أدعوكم اليه‏.‏ ان الله هو خالقي وخالقكم فاعبدوه وحده، وحافِظوا على شريعته، فهي الطريق الموصل الى النجاة‏.‏ ولكنهم خالفوا ما دعاهم اليه، واخلتفوا، وصاروا شِيعا وفرقاً لا حصر لها‏.‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ‏}‏ هو يوم القيامة، حين يحاسَبون على كل صغيرة وكبيرة‏.‏

هل ينتظر هؤلاء الاحزاب المختلفون في شأن عيسى الا ان تقوم الساعةُ بغتةً وهم غافلون عنها‏!‏‏؟‏

قراءات‏:‏

قرأ الكسائي ونافع وابن عامر‏:‏ يصُدون بضم الصاد‏.‏ والباقون‏:‏ بكسرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 80‏]‏

‏{‏الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ‏(‏67‏)‏ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏68‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏69‏)‏ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ‏(‏70‏)‏ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏71‏)‏ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏72‏)‏ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏73‏)‏ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏74‏)‏ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏75‏)‏ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ‏(‏76‏)‏ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ‏(‏77‏)‏ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏78‏)‏ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ‏(‏79‏)‏ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

الأخلاء‏:‏ جمع خليل الاصدقاء‏.‏ مسْلمين‏:‏ مخلصين منقادين لربهم‏.‏ تحبرون‏:‏ تسرون‏.‏ بصحاف‏:‏ جمع صحفة وهي آنية الطعام، يؤكل بها‏.‏ أكواب‏:‏ جمع كوب، وهو خازِن النار‏.‏ أم أبرموا أمرا‏:‏ احكموا تدبيره‏.‏ نجواهم‏:‏ ما يتناجون به بينهم‏.‏

في هذه الآيات مشهدٌ من مشاهد يوم القيامة يبيّن حال فريقين متقابلَين، وهو يبدأُ في رسم صورةٍ عن الأصدقاء في ذلك اليوم فيقول‏:‏

ان الأصدقاء بعضُهم لبعض عدوٌّ الا الذين كانت صداقتهم خالصةً لوجه الله واجتمعوا على التقوى، فإنهم في كَنَفِ الله وضيافته لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون‏.‏ ويومئذ يقال للذين آمنوا بالله وصدّقوا رسوله الكريم‏:‏ ادخلوا الجنةَ أنتم وازواجُكم تُسرّون فيها سروراً عظيما‏.‏ وهناك يلقَون من النعيم ما لا مثيل له في الدنيا، ويطاف عليهم بأوانٍ من ذهب ويشربون بأكواب من ذهب، ويجدون كل ما تشتهيه انفسهم وما تلذ به أعينهم، ويقال لهم إكمالاً للسرور‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏ وفي هذه الجنة أيضاً فاكهة كثيرة الانواع ‏{‏مِّنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏‏.‏

ثم بيّن حال الفريق المقابل من أهل النار، وما يكون فيه الكفار من العذاب الدائم الذي لا يخفّف عنهم ابدا، وهم في حُزنٍ لا ينقطع‏.‏ والله تعالى لم يظلمهم بهذا العذاب ‏{‏ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين‏}‏ باختيارِهم الضلالة على الهدى‏.‏

ثم بين كيف يقول أهل النار لخَزَنتها ويطلبون منهم ان يموتوا حتى يستريحوا من العذاب، ويردّ عليهم مالكٌ، خازن النار قائلاً‏:‏

‏{‏إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ‏}‏

لقد جاءكم رسولنا بالدّين الحق فآمن به قليل، وأعرض عنه أكثركم وهم كارهون، وستبقون في جهنم هذه جزاء كفركم‏.‏

ثم بين الله ما أحكموا تدبيره من ردّ الحق، وإعلاء شأن الباطل، وقال لهم‏:‏

‏{‏فَإِنَّا مُبْرِمُونَ‏}‏

إنا محكِمون أمراً في مجازاتكم واظهار الرسول عليكم‏.‏

لقد وهِموا فيما ظنّوا أننا لا نسمع سرّهم وما يتناجون به بينهم، ‏{‏بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ كلَّ ما صدر عنهم من قول او فعل‏.‏

قراءات‏:‏ قرأ حفص ونافع وابن عامر‏:‏ ما تشتهيه الانفس‏.‏ والباقون‏:‏ ما تشتهي الأنفس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 89‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ‏(‏81‏)‏ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏82‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏83‏)‏ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏84‏)‏ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏85‏)‏ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏87‏)‏ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

سبحان ربّ السموات‏:‏ تنزيهاً له عن كل نقص‏.‏ يصِفون‏:‏ يقولون كذباً بأن له ولدا‏.‏ فذرْهم‏:‏ فاتركهم‏.‏ يخوضوا‏:‏ يتكلموا بالباطل‏.‏ حتى يلاقوا يومهم‏:‏ يوم القيامة‏.‏ يدعون‏:‏ يعبدون‏.‏ يؤفكون‏:‏ يصرفون‏.‏ وقيله‏:‏ وقَوله، يقال قلت قولاً، وقالاً، وقيلاً، فاصفح عنهم‏:‏ فاعف عنهم‏.‏

قل ايها الرسول للمشركين‏:‏ إن صحّ الدليل القاطع ان للرحمن ولداً فأنا أولُ من يعبدُ هذا الولد، لكنه لم يصحّ ذلك ولن يصحّ‏.‏

ثم نزّه الله نفسه بقوله‏:‏

‏{‏سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏

تنزه خالقُ هذا الكون العجيب وربُّ العرش المحيط بذلك كله، عما يصفه المشركون‏.‏

ثم امر الرسولَ الكريم أن يتركهم في خوضهم بباطلهم وشركهم حتى يلاقوا يومهم، يوم القيامة، وهناك يدركون خطأهم ويندمون‏.‏

ثم أكد هذا التنزيه ببيان أن الله هو الذي يُعبد في السماء بحقّ، ويُعبد في الأرض بحق‏.‏

‏{‏وَهُوَ الحكيم العليم‏}‏ الحكيم في تدبير خلقه، العليم بمصالحهم‏.‏

ان عنده وحده عِلم يوم القيامة، واليه وحده ترجعون في الآخرة للحساب، أما هذه الأوثان التي تعبدونها فلن تستطيع الشفاعة لكم‏.‏ أما من نطق بالحق وكان على بصيرة من عند ربه فان شفاعته تنفع عند الله بإذنه، ولمن يستحقها‏.‏

ثم بين ان هؤلاء المشركين يتناقضون في اقوالهم وافعالهم فقال‏:‏

‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ‏}‏

ولئن سألتَ أيها الرسول هؤلاء المشركين من الذي خلقهم ليقولُنّ‏:‏ خَلَقنا الله، فكيف إذن يُصرفون عن عبادته تعالى الى عبادة غيره‏!‏‏؟‏‏.‏

‏{‏وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏

والله عنده علمُ الساعة وعلمُ قول الرسول يا رب ان هؤلاء الذين أمرتّني بإنذارهم قومٌ لا يؤمنون‏.‏ وقيلهِ بالجر نعطوف على قوله وعنده علم الساعة وعلم قيلِه‏.‏

ولذلك قال له تعالى‏:‏

‏{‏فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏

فأعرِض عنهم أيها الرسول، وقل لهم سلام، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، وأنك ستنتصر عليهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ عاصم وحمزة‏:‏ وقيلِهِ بالجر، والباقون‏:‏ وقيلَهُ بالنصب‏.‏

سورة الدخان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ‏(‏3‏)‏ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ‏(‏4‏)‏ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ‏(‏5‏)‏ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏6‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏7‏)‏ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

ليلة مباركة‏:‏ هي ليلة القدر‏.‏ منذِرين‏:‏ مُعْلِمين ومخوفين‏.‏ يفرق‏:‏ يفصل ويبين‏.‏ حكيم‏:‏ محكَم لا يمكن الطعن فيه‏.‏ ان كنتم موقنين‏:‏ ان كنتم مؤمنين ومصدقين حقا‏.‏

حم‏:‏ تقرأ هكذا حاميم‏:‏ من الحروف الصوتية، وقد تكلّمنا عن هذا الاسلوب والغرض منه‏.‏

أقْسَمَ الله تعالى بالقرآن الكاشف عن الدِّين الحقِ، المبينِ لما فيه صلاحُ البشرية في دنياهم وأُخراهم، وأنه انزلَ القرآنَ في ليلة مبارَكة هي ليلة القدر، لإنذار العباد وتخويفهم بإرسال الرسُل وانزال الكتب‏.‏ وفي هذه الليلة المباركة يفصِل الله كل أمر محكَم، والقرآنُ رأس الحكمة والفيصلُ بين الحقّ والباطل، يبيّن لهم ا يضرّهم وما ينفعهم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع العليم‏}‏ إن الله لا تخفى عليه خافية من أمرهم، فهو الذي بيدِه إحياؤهم وإماتتهم، وهو ربُّهم وربّ آبائهم الأولين، المالكُ لهم والمتصرّف فيهم حسب ما يريد‏.‏

‏{‏بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ‏}‏

انهم ليسوا بموقِنِين بعد أن بينّا لهم الرشدَ من الغيّ وأصرّوا على كفرهم وشكّهم وعنادهم لاهين لاعبين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الكوفيون‏:‏ ربِّ السموات‏.‏ بالجر‏.‏ والباقون‏:‏ ربُّ السموات بالرفع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 21‏]‏

‏{‏فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ‏(‏17‏)‏ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏18‏)‏ وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏19‏)‏ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ‏(‏20‏)‏ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

فارتقب‏:‏ فانتظر‏.‏ الدخان‏:‏ الدخان المعروف الناشئ عن النار‏.‏ يغشى الناسَ‏:‏ يحيط بهم‏.‏ اكشفْ عنا‏:‏ ارفع عنا‏.‏ أنّى لهم الذكرى‏:‏ كيف يتذكرون ويتعظون‏.‏ وقالوا معلَّم‏:‏ يعلمه بعض الناس‏.‏ البطش‏:‏ الأخذ الشديد‏.‏ فتنّا‏:‏ بلونا، وامتحنا‏.‏ أدوا اليَّ عباد الله‏:‏ اعطوني عباد الله وأطلقوهم‏.‏ لا تعلوا على الله‏:‏ لا تستكبروا‏.‏ بسلطان مبين‏:‏ بحجة واضحة‏.‏ عُذت بربي وربكم‏:‏ التجأت اليه وتوكّلتُ عليه‏.‏

انتظِر ايها الرسولُ يومَ القيامة حين تأتي السماءُ بدخانٍ واضحٍ يعمُّ الناسَ ويغطّيهم، فيقولون‏:‏ ربنا اكشِف عنا العذابَ قد آمنا بدِينك‏.‏ إن إيمانَهم لن ينفعَهم في ذلك اليوم، وقد جاءهم رسولُ الله بالرسالة الواضحة الصادقة، فكفروا به، وقالوا إنه مجنونٌ يعلّمه بعضُ الناس القرآنَ الذي يتلوه علينا‏.‏

وهنا يردّ الله تعالى عليهم‏:‏ إنا سنرفعُ عنكم العذاب، وإنكم تعيشون الآن فرصةً قبل يوم القيامة فآمِنوا، إنكم ستعودون الى كُفركم وما كنتم عليه بعد سماعكم الآيات‏.‏

فاذكر ايها الرسولُ يومَ تأخذهم الأخْذَةُ الكُبرى بعنف وقوة، ‏{‏إِنَّا مُنتَقِمُونَ‏}‏ منهم في ذلك اليوم الرهيب‏.‏

ولقد امتحنا قبل كفارِ مكة قومَ فرعونَ بالنعمةِ والسلطان واسباب الرخاء ‏{‏وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ‏}‏ مأمونٌ على ما أبلّغكم غير متَّهم فيه، فلا تتكبروا على الله بتكذيب رسوله، لأني آتيكم بحجّة واضحة على حقيقة ما ادعوكم اليه‏.‏

‏{‏وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ‏}‏

اني ألتجئ الى الله ربي وربكم ان لا تصِلوا اليَّ بسوءٍ من قول أو عمل‏.‏

وان لم تصدّقوني فيما جئتكم به من عند الله ‏{‏فاعتزلون‏}‏ وخلُّوا سبيلي ولا ترجموني، ودعوا الأمرَ بيني وبينكم مسالمةً الى ان يقضيَ الله بيننا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 33‏]‏

‏{‏فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ‏(‏22‏)‏ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏23‏)‏ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ‏(‏24‏)‏ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏25‏)‏ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏26‏)‏ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ‏(‏27‏)‏ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏28‏)‏ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ‏(‏29‏)‏ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏30‏)‏ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏32‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

اسرِ بعبادي‏:‏ سر بهم ليلاً‏.‏ متبعون‏:‏ يتبعكم فرعون وجنوجه‏.‏ رهْواً‏:‏ ساكنا هادئا‏.‏ مقام كريم‏:‏ منازل حسنة‏.‏ نعمة‏:‏ ‏(‏بفتح النون‏)‏ الرفاهة وطيب العيش، والنعمة‏:‏ ‏(‏بكسر النون‏)‏ ما أنعم الله به من رزق ومال وغيره‏.‏ فاكهين‏:‏ ناعمين في عيش رغيد‏.‏ فما بكتْ عليهم السماء‏:‏ لم تكترث لهلاكهم‏.‏ مُنظِرين‏:‏ مهملين ومؤخرين‏.‏ العذاب المهين‏:‏ الشديد الاهانة والإذلال‏.‏ عاليا‏:‏ جبّارا متكبرا‏.‏ من المسرفين‏:‏ في الشر والفساد‏.‏ على عِلم‏:‏ عالمين باستحقاقهم ذلك‏.‏ على العالمين‏:‏ في زمانهم‏.‏ الآيات‏:‏ المعجزات‏.‏ بلاءٌ مبين‏:‏ اختبار ظاهر‏.‏

فلما طال مقامُ موسى بين أظهُرِ قومِ فرعون ولم يؤمنوا به، ولم يزدهم ذلك الا كفراً وعناداً دعا ربه شاكياً قومه حين يئسَ من غيمانهم، بأن هؤلاء القوم مجرمون، لا أمل فيهم‏.‏

وحينئذ أمره اللهُ ان يُخرج بني اسرائيل ليلاً وان يحذَروا، لأن فرعونَ وقومه سيتبعونهم‏.‏ وطلب إليه‏:‏ إنك اذا قطعت البحر يا موسى فاتركه ساكناً على حاله حتى يدخلَه فرعونُ وقومه فيغرقوا فيه‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ‏}‏‏.‏

ثم بين الله تعالى بعد غرقِ آل فرعون كم تركوا بعد إغراقهم ومَهلَكِهم من بساتينَ وقصور، وحدائقَ غناء وزروع ناضرة، وعيشة ناعمة ‏{‏كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ‏}‏ ناعمين مترفين‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ‏}‏

هكذا فعلنا بهؤلاء الذين كذّبوا رُسلَنا، وهكذا نفعل بكل من عصانا‏.‏ ثم إننا أورثنا تلك البلادَ وما فيها من خير عميم قوماً آخرين، لا يمتّون إليهم بقرابة ولا دين‏.‏ فما حزنتْ عليهم السماءُ ولا الأرض عندما أخذهم العذابُ ولا أُمهلوا لتوبةٍ او تداركِ تقصير‏.‏

ثم بين الله كيف نَجَّا موسى ومن معه وذَكَر إحسانَه إليهم بأنه خلّصهم من العذاب المهين، بإهلاك عدوّهم فرعون، الذي كان متكبراً مسرفاً في الشر والفساد، وبيّن انَّه اصطفاهم على عالَمِ زمانهم، وأعطاهم من المعجزات ما فيه اختبارٌ ظاهر لهم وبلاء‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 42‏]‏

‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ ‏(‏34‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏36‏)‏ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏37‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏38‏)‏ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏40‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

بمنشَرين‏:‏ بمبعوثين، نشر اللهُ الموتى وأنشرهم‏:‏ أحياهم‏.‏ تُبّع‏:‏ لقبٌ لملوك اليمن القدماء مثل فرعون لدى قدماء المصريين‏.‏ لاعبين‏:‏ عابثين‏.‏ يوم الفصل‏:‏ هو يوم القيامة، سُمي بذلك لأنه يفصَل فيه بين الناس‏.‏ ميقاتهم‏:‏ موعدهم‏.‏ لا يغني مولى‏:‏ لا ينفع احد احدا‏.‏ المولى كلمة لها عدة معانٍ‏:‏ الرب، والمالك، والمحب، والصاحب، والحليف، والنزيل، والجار، والشريك، والصهر، والقريب من العصبة كالعم وابن العم ونحو ذلك، والمعتِق، والمعتَق بفتح التاء، العبد، والتابع‏.‏

يعود الحديث عن المنكِرين للبعث، وقولهم لا حياةَ بعد هذه الحياة‏.‏ فإن هؤلاء المكذِّبين بالبعث ليقولون‏:‏ إننا لا نموت الا مرةً واحدة، ولسنا بمبعوثين‏.‏ فان كنتم صادقين فاسألوا ربَّكم أن يعجِّل لنا إحياءَ من ماتَ من آبائنا حتى يكونَ ذلك دليلاً على صِدق دعواكم‏.‏

ثم بين الله لهم على طريق السؤال‏:‏ هل كفّار مكةَ خيرٌ في القوة والمنعة والسلطان ام قوم تُبَّع ومن سبقَهم من الجبابرة‏!‏ إن قومك يا محمد ليسوا بقوّتهم وَمنْعَتِهم وسلطانهم، وقد أهلكناهم في الدنيا بكُفرهم وإجرامهم، فليَعْتبر قومك من مصير غيرهم‏.‏ لِيوقنوا أنه تعالى لم يخلق هذه السمواتِ والأرضَ عبثا دون حكمة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏‏.‏

نحن ما خلقنا هذا الكونَ العجيب وما فيه الا بحكمة بالغة، على نظامٍ ثابت يدلّ على وجود اللهووحدانيته وقدرته ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ هذه الدلالةَ لغفلتهم‏.‏

ان يوم القيامة موعدُهم جميعاً وفيه يُفصَل بين الحقّ والباطل‏.‏ يومئذٍ لا يستطيع أحدٌ ان يساعد احداً ولا ينفع مالٌ ولا بنون ولا أنساب ولا صديق حميم‏.‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ الا بصالح الاعمال‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 59‏]‏

‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ‏(‏43‏)‏ طَعَامُ الْأَثِيمِ ‏(‏44‏)‏ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ‏(‏45‏)‏ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ‏(‏46‏)‏ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ‏(‏48‏)‏ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ‏(‏49‏)‏ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ‏(‏51‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏52‏)‏ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏53‏)‏ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏54‏)‏ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏56‏)‏ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏57‏)‏ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

الزقّوم‏:‏ طعام أهل النار‏.‏ وشجرة الزقوم ‏{‏تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 64-65‏]‏، وهي الشجرة الملعونة‏.‏ الأثيم‏:‏ المجرم المذنب‏.‏ المُهل‏:‏ خثارة الزيت‏.‏ الحميم‏:‏ الماء الحار‏.‏ فاعتلوه‏:‏ فجرّوه بعنف‏.‏ عَتَلَه يعتله بكسر التاء وضمها عَتْلاً‏:‏ جره جراً عنيفا‏.‏ سواء الجحيم‏:‏ وسطها‏.‏ في مقام امين‏:‏ في منزل آمن‏.‏ سندس‏:‏ نوع من الحرير الرقيق‏.‏ استبقر‏:‏ حرير فيه لمعان وبريق وهو اغلظ من السندس‏.‏ بحورٍ عين‏:‏ نساء جميلات واسعات العيون‏.‏ يدّعون‏:‏ يطلبون‏.‏ وقاهم‏:‏ جنّبهم وأبعدهم عن العذاب‏.‏ فارتقب‏:‏ فانتظر‏.‏

الحديث الآن عن أهلِ النار وطعامهم وما يلاقُونه من عذابٍ أليم‏.‏‏.‏ ان شجرة الزقُوم المعروفة بقُبح منظرِها وخُبثِ طَعْمِها وريحها هي طعامُ الفاجر الكافر الأثيم‏.‏ ومذاقُها كسائل المعدِن المصهور، يغلي في البطون كالماءِ الشديد الحرارة‏.‏

ثم يقال لزبانية جهنم‏:‏ خذوا هذا الفاجرَ الأثيم فجرّوه بعنفٍ الى وسط الجحيم، ثم صبُّوا فوق رأسه الماءَ الحار‏.‏ ثم يقال له استهزاءً وتهكماً‏:‏ ذُق العذابَ، ايها العزيز الكريم المعتزّ بنَسَبك وقومك‏.‏

ان هذا العذاب الذي تلاقونه الآن هو ما كنتم تكذّبون به في الدنيا‏.‏

وبعد ان بين الله أحوال المجرمين وما يلاقونه من اهوال وعذاب وتقريع، بيّن هنا أحوال المتقين وما يلاقونه في جنّات النعيم من ضُروب التكريم في منازل حسنة آمنة، في جنات النعيم، ملابسهم فيها من أنواع الحرير الفاخر، متقابلين على السُرر، يستأنس بعضهم ببعض، تحفُّ بهم زوجاتهم من الحُور العين، ويطلبون ما يشتهون من انواع الفاكهة‏.‏ ثم بين ان حياتهم في هذا النعيم دائمة، وقد نجّاهم الله من العذاب الاليم‏.‏

‏{‏فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم‏}‏ وأيّ فضل وفوز أعظمُ من النجاة من عذاب أليم‏!‏

ثم بين الله تعالى أنه انزل هذا القرآن الكريم باللغة العربية ويسّره بها لعلّ العربَ ينتفعون به وبتعاليمه، وينشرونه في العالم‏.‏ وبهذا يجيء ختام السورة كما بدئتْ، بذِكر القرآن‏.‏ ثم يقول الله تعالى مسلّياً رسولَه الكريم وواعداً إياه بالنصر، ومتوعداً المكذّبين بالهلاك‏:‏

‏{‏فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ‏}‏

انتظِر أيها الرسول انهم منتظِرون، وسيعلمون لمن يكنُ النصر‏.‏ وقد نصر الله تعالى رسوله واصحابه ونشروا دينه العظيم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وحفص ورويس وابن عامر‏:‏ يغلي بالياء‏.‏ والباقون‏:‏ تغلي بالتاء‏.‏ وقرأ حفص وحمزة والكسائي وابو عمرو‏:‏ فاعتِلوه بكسر التاء، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب‏:‏ فاعتُلوه بضم التاء، وهما لغتان‏.‏ وقرأ ابن عامر ونافع‏:‏ في مُقام بضم الميم‏.‏ والباقون‏:‏ في مَقام بفتح الميم‏.‏

سورة الجاثية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏5‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

لآياتٍ‏:‏ لعبراً ودلائل‏.‏ يبثّ‏:‏ ينشر‏.‏ اختلاف الليل والنهار‏:‏ تعاقبهما‏.‏ تصريف الرياح‏:‏ تغييرها من جهةٍ الى اخرى‏.‏

حم‏:‏ حرفان من الحروف الصوتية ابتدأت بهما هذه السورة وقد سبق الكلام عن مثله‏.‏

إن هذا الكتابَ الكريم أنزله الله، الحكيمُ في تدبيره لهذا الكون العجيب ولكل ما خلق، وان في خلْق السمواتِ والأرض من بديع صُنْع الله لآياتٍ دالة على ألوهيته ووحدانيته يؤمن بها المصدّقون بالله العظيم‏.‏ وكذلك في خلْق الناس على أحسنِ تقويم، وما ينشرُ في الأرض من الدواب- دلالات قوية واضحة ‏{‏لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

ومثل هذا في اختلافِ الليل والنهار وتعاقُبهما على نظام ثابت، وفيما أنزل اللهُ من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها ويبْسِها، وتصريف الرياح إلى جهاتٍ متعددة علاماتٌ واضحة ‏{‏لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

تلك آياتُ الله الكونية التي أقامها للناس، نتلوها عليك أيها الرسولُ مشتملةً على الحق، فاذا لم يؤمنوا بها ‏{‏فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏؟‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي ويعقوب‏:‏ لآياتٍ بكسر التاء في المواضع الثلاثة، والباقون‏:‏ لآياتٍ بكسر التاء الأولى، وفي الموضعين بعد ذلك ىياتٌ لقوم، بالرفع‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ وتصؤبف الريح بالافراد‏.‏ والباقون‏:‏ وتصريف الرياح بالجمع‏.‏ وقرأ الحجازيان وحفص وابو عمرو وروح‏:‏ يؤمنون ب الياء‏.‏ والباقون‏:‏ تؤمنون بالتاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 15‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏7‏)‏ يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏9‏)‏ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏10‏)‏ هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

أفاك‏:‏ كذاب‏.‏ أثيم‏:‏ مذنب، مجرم كثير المعاصي‏.‏ فبشّره بعذاب‏:‏ جاء التعبير بالتبشير للاستهزاء به، لأن العذاب لا يبشَّر به‏.‏ من ورائهم جهنم‏:‏ تنتظرهم‏.‏ يغني‏:‏ يدفع عنهم‏.‏ الرجز‏:‏ عذاب من نوع شديد‏.‏ سخر‏:‏ هيأ‏.‏ لتبتغوا من فضله‏:‏ لتطلبوا من فضل الله‏.‏ لا يرجون‏:‏ لا يتوقعون حصولها‏.‏ أيام الله‏:‏ تطلق على ايام الخير، وأيام الشر‏.‏

الهلاكُ والعذاب لكل كذّاب في قوله وأثيم في فعله‏.‏‏.‏ يسمع هذا المفتري آياتِ الله تُقرأ عليه ثم يبقى مصرّاً على كفره مستكبراص كأنْ لم يسمعها، فبشّره أيها الرسولُ بأشدّ العذاب‏.‏

وفي قوله تعالى ‏{‏فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ تهكم واحتقار لهؤلاء المكذبين‏.‏

واذا وصل مثلُ هذا الى علمه شيء من آياتنا واستهزأ بها وسخِر منها‏.‏

‏{‏أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏

من ورائهم جهنمُ تنتظرهم، ولا يدفعُ عنهم العذابَ ما كسبوا في الدنيا من الأموال والأولاد‏.‏ ولا تُغني عنهم أصنامُهم التي عبدوها من دون الله شيئا، ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

إن هذا القرآن هدى من عند الله، والذين كفروا بآياتِ ربّهم لهم العذابُ المؤلم يوم القايمة‏!‏ أما يعلمون انه وحده الذي ذلل البحرَ تجري السفنُ فيه بأمره، تحمِلُ الناسَ وجميع ما يحتاجون‏!‏‏!‏ بفضله يَسَعُكم أن تطلبوا من خيراتِ البحر بالتجارة والصيد واستخراج ما فيه من لآلئ وتشكروه على ما أفاض عليكم من هذه النعم‏.‏

كذلك سخّر لكم جميع ما في السموات وما في الأرض ليوفّر لكم منافعَ الحياة، وكل هذه النعم آياتٌ تدلّ على قدرته تعالى لقومٍ يتفكّرون في صنائع الله القدير‏.‏

ناظرَ طبيبٌ نصراني من أطباء الرشيد عليّ بن الحسين الواقدي المَرْوَزِيَّ، في مجلس الرشيد فقال له‏:‏ ان في كتابكم ما يدلّ على ان عيسى بن مريم جزءٌ من الله تعالى، وتلا قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏‏.‏

فقرأ الواقدي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ‏}‏ ثم قال‏:‏ اذنْ يلزم ان تكونَ جميع تلك الأشياء جزءاً من الله‏!‏ فانقطع الطبيب واسلم‏.‏ وفرح الرشيد بذلك فرحاً شديدا، ووصَل الواقديَّ بصلةٍ فاخرة‏.‏

ثم بعد ذلك أمر الله المؤمنين ان يتحلّوا بأحسنِ الأخلاق، فطلب اليهم ان يصفَحوا عن الكافرين ويحتملوا أذاهم، وعند الله جزاؤهم بقوله تعالى‏:‏

‏{‏قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏

يا أيها الذين آمنوا‏:‏ تسلَّحوا بالصبر، واغفِروا واصفَحوا تربحوا، فَ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا‏}‏ ثم إنكم جميعاً إلى خالقكم تُرجَعون للجزاء‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حفص وابن كثير‏:‏ من رجز أليمٌ برفع ميم اليم‏.‏ والباقون‏:‏ من رجز أليمٍ بجر أليمٍ على انه صفة لرجز‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي‏:‏ لنجزي بالنون‏.‏ والباقون‏:‏ ليجزي بالياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 20‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏19‏)‏ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

الكتاب‏:‏ التوراة‏.‏ الحكم‏:‏ الفصل بين الناس وفهم ما في الكتاب‏.‏ الطيبات‏:‏ كل رزق حسن‏.‏ بيّنات من الأمر‏:‏ دلائل واضحات من امر الدين‏.‏ بَغياً‏:‏ حسدا وعنادا‏.‏ على شريعة من الأمر‏:‏ على طريقة ومنهاج في امر الدين، وأصل الشريعة‏:‏ الماء في الانهار ونحوها مما يَرِدُ الناس عليها، وشريعة الدين يتبصر فيها الناس في امور دينهم‏.‏ بصائر للناس‏:‏ معالم للدين يتبصر بها الناس‏.‏ لقوم يوقنون‏:‏ يطلبون علم اليقين‏.‏

يأتي الحديث هنا عن القيادة المؤمنة للبشرية، وأن هذه القيادة تركّزت أخيراً في الاسم‏.‏ والله سبحانه يُقسِم بأنه اعطى بني إسرائيلَ التوراةَ والحكم بما فيها النبوة، ورَزَقَهم من الخيرات المتنوعة وفضّلهم بكثيرٍ من النعم على الخلْق في عصرهم‏.‏ وأعطاهم دلائلَ واضحةً في أمرِ دينهم، فما حدثَ فيهم هذا الخلافُ إلا من بعدِ ما جاءهم العلمُ بحقيقة الدين وأحكامه، بغياً بينهم بطلب الرياسة والتكالب على الدنيا، والجشعَ في جمع الأموال‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏‏.‏

وفي هذا تحذيرٌ لنا يا أمةَ محمد، وقد سلك الكثيرُ منا مسلكهم، واستهوتْهم الدنيا، وغرِقوا في متاعها ولذّاتها، فلْنحذَر الانحدارَ الى الهاوية‏.‏

ولما بيّن ما آل اليه بنو إسرائيل بإعراضهم عن الحق بغياً وحسَدا، أمر رسولَه الكريم ان يبعد عن هذه الطريقة، وان يستمسك بالحقّ الذي أرسله به‏.‏

ثم جعلْناك يا محمدُ ‏(‏بعد بني إسرائيل الذين تقدمتْ صفاتُهم‏)‏ على نهج خاصٍّ من أمرِ الدين الذي شرعناه لك، فاتبعْ ما أُوحيَ إليك‏.‏

‏{‏وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ من المشرِكين الجاهلين، ذلك ان هؤلاء الكافرين لا يدفعون عنك شيئاً من عذابِ الله إنِ اتّبعتهم، وان الكافرين بعضهم أولياء بعض‏.‏

‏{‏والله وَلِيُّ المتقين‏}‏

هو ناصرُهم، فلا ينالهم ظلم الظالمين‏.‏

وهذه كانت بشرى من الله للرسول وللمؤمنين وهم لا يزالون في مكة‏.‏

وبعد هذا كله يبين الله فضل القرآن، وما فيه من الهداية والرحمة للناس اجمعين فيقول‏:‏ ‏{‏هذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

إن هذا القرآن وما فيه من احكام واخلاق وتهذيب دلائلُ للناس تبصّرهم في أمور دينهم ودنياهم، وهدى يرشدُهم إلى مسالك الخير، ورحمةٌ من الله لقوم يوقنون به ويؤمنون بالله ورسوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏23‏)‏ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏24‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

اجترحوا السيئات‏:‏ اكتسبوا الخطايا والكفر‏.‏ مَحياهم‏:‏ حياتهم‏.‏ مَماتهم‏:‏ موتهم‏.‏ اتخذ إلهه هواه‏:‏ من اتخذ هواه معبودا له يجري وراء متعته ولذاته ولا يتقيد بشرع ولا دين‏.‏ وما يُهلكنا الا الدهر‏:‏ هؤلاء الملاحدة الذين لا يؤمنون باله يقولون‏:‏ لا وجود للاله وانما نولد ونموت طبيعيا‏.‏

لا يمكن ان يكون المحسنُ والمسيء في منزلة واحدة، ولا يجوز ان نسوّيَ بين الفريقين في الحياة الدنيا، وفي دار الآخرة‏.‏ كلا لا يستوون في شيء منهما‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 20‏]‏‏.‏

فالله سبحانه وتعالى قد أقام هذا الكون بما فيه على نظام ثابت، وعلى اساس الحق والعدل، فاذا استوى المؤمن والكافر ينتفي العدل‏.‏ وهذا محلٌ على الله تعالى‏.‏ وكذلك قال في آية اخرى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ يتكرّرُ ذكر اقامة هذا الكون على اساس العدل والحق كثيرا في القرآن الكريم، لأنه أصلٌ من أصول هذه العقيدة‏.‏ من ثم علينا ألا نأسف عندما نرى أناساً يتقلبون في النعيم، وهم من الفَجَرة الفسقة، فان وراءهم حساباً عسيرا، فلا نعيمُ الحياة الدنيا دليل على رضا الله، ولا بؤسُها دليل على غضبه‏.‏

ولذلك يقول تعالى‏:‏

‏{‏وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏

وفي هذه الآية تعليل قويّ لنفي المساواة بين المحسن والمسيء، وهو أن تُجزى كل نفس بما كسبت من خير او شر ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏‏.‏

ثم يُتبع الله ذلك بصورة عجيبة لأولئك الناس الذين لايتقيّدون بدين، ولا يتمسكون بخلُق‏:‏ أرأيتَ أيها الرسُول مَن ركب رأسه، وترك الهدى، وأطاع هواه فدعله معبوداً له، وضل عن سبيل الحق وهو يعلم بهذا السبيل ‏{‏على عِلْمٍ‏}‏ منه ثم مضى سادِراً في ملذّاته غير آبهٍ بدين ولا خلق‏!‏‏؟‏ لقد أغلقَ سمعه فلا يقبل وعظاً، وقلبه فلا يعتقد حقا ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏، يا مشركي قريشٍ هذا‏؟‏

انها صورة عجيبة من الواقع الذي نراه دائماً، وما اكثر هذا الصنف من الناس‏.‏ واتباعُ الهوى هذا قد ذمّه اللهُ في عدة آيات من القرآن الكريم‏.‏ ‏{‏واتبع هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 176‏]‏ ‏{‏واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏‏.‏ نسأل الله السلامة‏.‏

ثم بعد ذلك يذكر اللهُ مقالةَ المنكرين للبعث، والذين يقال لهم الدَّهرِيّون‏.‏ هؤلاء الناس أنكروا البعث وقالوا‏:‏ ما هي إلا حياتنا الدنيا هذه، نموتُ ونحيا وما يُهلكنا الا الدهر‏.‏

‏{‏وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ‏}‏

إنهم لا يقولون ذلك عن علمٍ ويقين، ولاكن عن ظنّ وتخمين، واوهامٍ لا مستَنَدَ لها من نقل او عقل‏.‏ ولمّا لم يجدوا حجةً يقولونها تعلّلوا بقولهم‏:‏ ان كان ما تقوله يا محمد حقاً فلْتُرجِع آباءنا الموتى الى الحياة ‏{‏إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

وهنا أمر الله تعالى رسولَه الكريم ان يقول لهم‏:‏ الله يحييكم في الدنيا من العدَم ثم يميتكم فيها عند انقضاء آجالكم، ثم يجمعُكم يومَ القيامة الذي لا شك فيه، ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ قدرةَ الله على البعث، لإعراضهم عن التأمل في آيات الله وملكوته‏.‏

قراءات

قرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ سواءً محياهم، بنصب سواء‏.‏ والباقون‏:‏ سواءٌ بالرفع‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ غشوة، والباقون‏:‏ غشاوة‏.‏ قال في لسان العرب الغشاء‏:‏ الغطاء، وعلى بصره وقلبه غشوة وغشوة مثلثة العين، وعشاوة وغشاوة بفتح الغين وكسرها، وكلها معناها الغطاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 31‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏27‏)‏ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏30‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

جاثية‏:‏ باركة على الركَب‏.‏ الى كتابها‏:‏ الى صحيفة اعمالها المسجلة عليها‏.‏ ينطق عليكم بالحق‏:‏ يشهد عليكم بالحق‏.‏ نستنسخ‏:‏ نجعل الملائكة تكتب وتنسخ‏.‏

في هذه الآيات الكريمة يبين الله تعالى أنه مالكُ الكون كلّه، وهو وحده القادرُ على التصرف فيه ملكاً وتدبيرا، ويومَ القيامة يحشرُ الناسَ فيظهر خسرانُ أولئك المبْطِلين‏.‏

ثم بين حال الأمم في ذلك اليوم الرهيب، وان كل أمةٍ تجثو على رُكَبها وتجلس جلسة المخاصِم بين يدي الحاكم، وكل أمةٍ تُدعى الى سجلّ أعمالها، ويقال لهم‏:‏ اليومَ تَسْتَوفون جزاءَ ما كنتم تعملون في الدنيا، هذا كتابُنا الذي سجّلنا فيه أعمالكم، وهو صادق عليكم، إذ كتبتهُ الملائكةُ في دنياكم‏.‏

وبعد ان ينتهيَ الحسابُ يُدخل اللهُ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنته ‏{‏ذلك هو الفوزُ العظيم‏}‏‏.‏

وأما الذين كفروا بالله ورسله فيقال لهم‏:‏ ألم تأتِكم رسُلي، يتلون عليكم آياتِ كتبي، فكنتم تتعالون وتستكبرون عن قَبول الحق والايمان بها، وبذلك كنتم قوماً كافرين، فالنارُ مثواكم وبئس المصير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 37‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ‏(‏32‏)‏ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏33‏)‏ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏34‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏35‏)‏ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

بمستيقنين‏:‏ بمحقِّقين‏.‏ وبدا لهم سيئات ما عملوا‏:‏ ظهر لهم عيوب اعمالهم السيئة‏.‏ وحاق بهم‏:‏ احاط وحلّ بهم‏.‏ ننساكم «نترككم ونهملكم، كما نسيتم‏:‏ كما تركتم واعرضتم عن آيات الله وانكرتم لقاء ربكم في هذا اليوم‏.‏ لا يُستعتبون‏:‏ لا تُطلب منهم العتبى والاعتذار‏.‏ الكبرياء‏:‏ العظمة والسلطان‏.‏

واذا قال لكم رسول الله‏:‏ ان وعدَ الله ثابت، وان يوم القيامة لا شكّ فيه، قلتم‏:‏ ما نعلم ما هي الساعة وما حقيقة القيامة، وما عِلمُنا بذلك الا ظنّ، وما نحنُ بموقنين أنها آتية‏.‏

وظهرت لهم قبائح أعمالهم التي عملوها في الدنيا، ونزل بهم جزاءُ استهزائهم بآياتِ الله، ويقال لهؤلاء المشركين‏:‏ اليومَ نترككم في العذاب وننساكم فيه، كما تركتم العملَ للقاءِ يومكم هذا، ‏{‏وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ‏}‏ ينصرونكم اليوم‏.‏

فالله تعالى جمع لهم ثلاثة ألوان من العذاب‏:‏ قطْع الرحمة عنهم، وجعلِ مأواهم النار، وعدم وجود من ينصرهم، وذلك لأنهم أصرّوا على إنكار الدين الحق، واستهزؤا بالله ودينه ورسله، واستغرقوا في حب الدنيا‏.‏ وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم آيَاتِ الله هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ‏}‏

لا يخرجون من النار بل يخلَّدون فيها، ولا هم يُردُّون الى الدنيا، ولا يُطلب منهم ان يسترضوا الله ويتوبوا‏.‏

وبعد هذا الاستعراض فيما حوته السورة من آلائه واحسانه، وما اشتملت عليه من الدلائل على قدرته بدءَ الخلق واعادته- أثنى الله على نفسه بما هو أهلٌ له فقال‏:‏

‏{‏فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏‏.‏

فلله وحده الحمد والثناء، خالق هذا الكون بما فيه، وله وحده العظَمة والسلطان في السموات والأرض، وهو العزيز الذي لا يُغلب، ذو الحكمة رب العرش العظيم‏.‏